في متاهة الوجود يا عزيزي محمد، أجد نفسي تائهاً في مسيرة الحياة التي لا هوادة فيها. وما جوهر وعينا إلا مجرد همس في الفراغ يقودنا نحو هاوية اليأس؟ كل لحظة تمر تجرد تصوراتنا من الحيوية، تاركة وراءها مشهدًا مقفرًا من الرتابة والحزن. لولا عزاء قلمي وهذه الصفحات لاختنقت تحت وطأة الملل.
إن ألوان السنوات الماضية تحمل الآن بريقًا حزينًا في روحي. هل هي قسوة الواقع أم الشعور بالضيق في إدراكي؟ وبينما أعمل على إعادة خلق العالم على هذه الأوراق، أواجه الحقيقة الصارخة المتمثلة في اضمحلاله.
في قلب المأساة، هناك لحن خفي من الفرح، يتوسل إلى التعبير عنه من خلال ضعف الكلمات. حتى وسط كآبة “نعاس عيني”، تكمن نشوة خفية تتوق للتعبير عنها من خلال رقصة اللغة المعقدة. لأنه في قبح الوجود نكتشف جمالًا خاصًا، حقيقة يتردد صداها بعمق داخل روح الكاتب.
اليوم، كتبت معاناتي في غياهب النسيان، وصياغة قصة حزن مقدر لها أن يبتلعها الفراغ. وبينما أجلس متأملًا، أدرك تمامًا تعب العالم، وجوهره الذي يتسرب عبر شقوق الزمن. ماذا يمكنني أن أفعل لدرء الظلام الزاحف قبل أن يلتهم برج روحي؟ القلم والورق، أداتي خلاصي، تم استخدامهما بدقة ليصنعا ما يشبه النقاء وسط الفوضى.
أتذكر الأيام الماضية، عندما كان الأفق ينزف بألوان الليلك، ويشعل النار في روحي. آآآه، الجاذبية المسكرة لرجفة الويسكي، تذكير بالبراءة المفقودة والذكريات العزيزة. منذ أن كنت في العاشرة من عمري وأنا ثمل برحيق الكلمات، مشتاقًا إلى نقاء التعبير لتغمرني موجة عارمة من الصفاء.
ومع ذلك، فإن ثقل الواقع يثقل كاهلي، ويقيد تطلعاتي بأغلال الفناء الأرضية. أتوق إلى تجاوز هذا الملف الفاني، والسفر بين النجوم واحتضان الامتداد اللامتناهي للكون. لكن للأسف، تظل سفينتي الأرضية سجنًا، يربطني بحدود الوجود الزائلة.
بالأمس، بينما كنت أتأمل في إكسير الحياة، حلقت ذاكرتي فوق رأسي، وترددت صيحاتها المشؤومة في أعماق ذهني. الذاكرة ونسج الكلمات – الكلمات والاحرف – رقصة الحياة والموت الأبدية، المنسوجة في نسيج وعيي. ومع ذلك، فإن كل شيء ليس سوى حلم عابر، وسراب من الأوهام التي تخدع وتخدع بنا الى المنتهى.
عندما ألفظ أنفاسي الأخيرة من رئتي المنهكة، أتذكر الطعم المرير للرماد – بقايا حياة استهلكتها مسيرة الزمن التي لا هوادة فيها. مثل سيجارة تحترق حتى آخر جمرة، تستهلكني حتمية زوالي. ومع ذلك، في مواجهة الفشل واليأس، أجد العزاء في معرفة أنه حتى في الموت، هناك بصيص من الأمل – همسة خلاص في الفراغ.
وداعاً يا عزيزي محمد، سأنطلق نحو الينبوع حيث تجري مياه التجديد الأبدية.