يا للعظمة التي يتحدث بها التاريخ حين ينهض العراق قائلاً: “أنا الحضارة”، فتتجاوب معه مصر وهي تهتف: “أنا أم فرعون”. ثم ترتفع الجزائر صارخة من قلب الأرض قائلة: “أنا بلد المليون ونصف المليون شهيد”. ويأتي اليمن بنبض العروبة، مردداً: “أنا لغة العرب”. والسعودية تنحني كقبلة تجمع الشرق والغرب وتقول: “أنا القبلة”. أما العرب جميعهم، فيدّعون بأصوات واحدة: “نحن القضية، نحن التاريخ، نحن الانتصارات”.
لكن هل نتحدث حقاً عن التاريخ؟ تبا لهذا التاريخ، لقد بدأت أؤمن أنه مزيف، مخادع، مسروق منا في لحظة غفلة.
وها نحن الآن نغتال لبنان بأيدينا، بيروت، عاصمة الجمال والرقّة، قُتلت ببرود على أيدينا نحن! ألم يقولوا إن للحروف في لبنان لوناً؟ إذن لماذا أرى اللون أحمر، مختلطاً بالدماء، محروقاً بنيران المدافع وصوت القصف الذي لا يهدأ؟
كل الكلاب أضحت موظفة، تأكل وتشرب وتسكر على حساب أبي لهب، لا حاكم يحكم بلادنا العربية إلا وأمه صهيونية. سأشهد في محكمة هذا الزمن كيف خدعونا باسم العروبة، وكيف كان حكامنا مجرد ببغاوات تردد ما يملى عليها، تائهين في عتمة الكذب والنفاق.
سأقول ما لم يجرؤ أحد على قوله من قبل، وسأموت شجاعاً، مقاتلاً بأعظم سلاح .. سلاح الكلمات. سأقول: لو أن هؤلاء الحكام حموا شجرة زيتون واحدة في فلسطين، لكنت وقفت وأديت لهم التحية! سأصرخ: لو أن رجولتهم تحركت لا دفاعاً عن العروبة، بل فقط لإنقاذ امرأة واحدة اغتصبت في غزة، لمت من أجلهم حباً ووفاء!
لكن الحقيقة هي أنهم جميعاً أسرى شهواتهم، أشرار يتلونون كالثعابين في قفص الهوى.
يا ضمير، أسألك العفو والسماح. ربما كانت حياتك هي الثمن الباهظ الذي دفعناه لكي يظل حكامنا فوق جثثنا يتوجون أكاذيبهم بتيجان ذهبية.
نم بسلام أيها الضمير المنسي. ستظل الأجيال القادمة تقرأ عنك في كتب التاريخ المزيفة، عن ذلك الضمير الذي قتلناه بأيدينا، ذلك الضمير الذي لن يستيقظ إلا بموت حكامنا ورجال ديننا.
فلترقدي بسلام يا بيروت، عاصمة الأساطير والأنين. لأن حلمنا بدولة عربية واحدة، متحدة، لم يعد سوى أسطورة تائهة بين السطور، لم يعد سوى خيال مرسوم بألوان الدم والخراب.