لا أحب الحديث عن نفسي… لكن حقًا، من منا يحب الغوص في أعماق ذاته أمام الآخرين؟ من منا يقوى على تعرية روحه دون أن يشعر بخوف أو خجل؟ الحديث عن النفس يشبه السير على حافة سكين، مؤلم، وخطر، وقد يسقطك في هاوية الغرور، تمامًا كما يفعل أولئك الذين يملؤون الدنيا بكلماتهم الجوفاء. كلماتهم ليست إلا قشورًا، تخلو من جوهر، أنصاف حقائق يرددونها كي يثبتوا وجودهم في عالم لا يأبه كثيرًا لأرواح ضائعة مثلي.
أما أنا… آه، يا أنا. إنني أعيش في عتمة لا يُقاس عمقها. كلّ من سار في دروبي، كل من شرب من كأس آلامي، رحل… اختار الموت هربًا، وكأنه وجد فيه سلامًا مفقودًا لم يمنحه إياه هذا العالم القاسي. أحاول أن أتحدث عن هذا الجحيم الداخلي مع أقرب الناس لي، لكنهم يختصرون معاناتي في قصة حب قديمة تافهة انتهت بشكل تراجيدي. يظنون أن تلك الحكاية هي كل ما يؤرق روحي، لكنهم لا يدركون أن ما عايشته أكبر من كل قصة حب فاشلة. تلك القصة، مهما كانت قاسية، لم تترك سوى ندبة خفيفة زالت مع الأيام، كأنها مجرد سحابة عابرة في سماء مشبعة بالعواصف.
منذ الطفولة وأنا أحارب… لكن حروبي لم تكن بالسيوف أو البنادق. كانت معارك نفسية، حربًا مع عدو يسكن داخلي، لا يمكن الانتصار عليه ولا الهروب منه. هذه الحرب لم يكن فيها منتصرون، فقط ناجون بأعجوبة أو مستسلمون يبحثون عن راحة في الموت. ورغم ذلك، بقيت أتشبث بالحياة. لماذا؟ لا أعلم. ربما كان هناك شيء في داخلي، وهمٌ يسكنني، أو أمل غامض لم أتمكن من فهمه. كنت أعيش وكأنني أنتظر معجزة… انتظار شيء لا أعرف ماهيته، فقط كنت أؤمن أنه سيأتي يومًا ما وينتشلني من هذا الظلام العميق إلى نور أجهل مصدره.
بلغت التاسعة والعشرين من عمري، لكنني لم أشعر يومًا أنني حي. كنت أتحرك بين الناس، أمشي وأتحدث وأتنفس، لكن بلا روح. كنت مجرد قشرة جوفاء، قطعة من الجماد تتحرك دون إحساس. أحيانًا كنت أشعر أنني مثل حجر مرمي على طريق مهجور، لا أحد يعيره اهتمامًا ولا يكترث إذا تدحرج مع الريح أو بقي مكانه.
ثم جاءت مريم.
في البداية، اعتقدتُ أنها ستكون عابرة أخرى في حياتي، كسابقاتها. ظننت أنها ستبقى لفترة قصيرة، تملأ فراغًا عاطفيًا ثم ترحل كالبقية، تاركة وراءها حطامًا آخر يضاف إلى أنقاض حياتي. لكن مريم كانت مختلفة… لم ترحل.
مرّت الأيام والأسابيع، وكنا نتحدث بلغة العيون، تلك اللغة الصامتة التي لا تحتاج إلى كلمات. كانت نظراتنا تحمل كل ما نريد قوله، وكأنها همسات خفية بين أرواحنا. لم تكن هناك حاجة للتفسير أو الشرح؛ كأننا نقرأ بعضنا بعضًا دون عناء. كنت أنظر إليها، فأجد في عينيها مرآة تعكس ألمي، وأرى فيها الراحة التي لطالما بحثت عنها.
ثم، فجأة… شيء ما في داخلي تحرّك. مشاعري، التي ظننت أنني دفنتها للأبد، خرجت من قبرها. خرجت كعاصفة لا تعرف الرحمة، تهتف بي: “كفى!”. كنت أرى تلك المشاعر تتحول، تتبدل ألوانها من الأسود الحالك إلى الوردي الباهت. لقد أحببتها… أحببت مريم بكل ذرة في كياني.
لكن حبي لها لم يكن حبًا عابرًا يتغذى على جمالها الخارجي. لم يكن جمالها هو ما جذبني؛ لم تزلزلني ملامحها للحظة. لقد أحببت روحها. أحببت ابتسامتها التي كانت كنسيم صباح يزيح عني الغبار المتراكم في صدري. أحببت ضحكتها التي كانت كضوء يبدد عتمة روحي. كلماتها كانت كأغنيات تهدهد قلبي المرهق، وشعرها كان كخيوط شمس تتسلل إلى زوايا نفسي الباردة.
أحببت عينيها… لم تكن مجرد عينين، بل نافذتين تطلان على عالم آخر، عالم من السلام والسكينة. أحببت تلك النظرات الصامتة التي كانت تحمل في طياتها قصصًا لم تُحكَ. حتى عيوبها الصغيرة، تلك الأشياء التي قد يراها الآخرون مزعجة، كانت بالنسبة لي تفاصيل أحببتها بجنون.
ولم أتوقف عند مريم… أحببت كل ما يمت لها بصلة. أحببت تونس. أحببت شواطئها التي بدت وكأنها تحتضن البحر بحنان، وكأنها تناديه ليهدأ بين ذراعيها. عشقت كلماتها، كلمات مثل “برشا” و”يعيشك”، كلمات بسيطة لكنها كانت بالنسبة لي كقصائد شعرية.
أحببت والدتها التي أنجبتها… لقد منحتني والدتها جنة تمشي على الأرض. وأحببت والدها، ذلك الرجل الذي علمها كيف تكون ملكةً، لا بجمالها أو كبريائها، بل بتواضعها ورقتها.
مع مريم، لم أعد أشعر أنني أعيش فقط من أجل البقاء. أصبحت أحب الحياة من جديد. كل لحظة قضيتها معها كانت تضيف لونًا جديدًا إلى لوحتي الرمادية. كنت أضحك من أعماق قلبي حين تتحدث، وقلبي يخفق كلما نظرت إليّ. حتى صمتها كان يملأني بالقلق والحنين.
آه يا مريم… كنت أقف على حافة هاوية مظلمة، أستعد للسقوط في ظلام لا قرار له. لكنك جئتِ، وأمسكتِ بيدي، ومنحتني جناحين. لم أعد أخاف السقوط… معك، تعلمت كيف أطير.