آه يا مريم…
أتعلمين ما الذي يؤلمني حقًا؟ ليس الفراق، فالفراق يا مريم ليس سوى إجراء شكليّ، لحظة خاطفة نُلقي فيها التحية الأخيرة ثم نمضي في طريقين مختلفين. ما يؤلمني هو أنني في كل مرة كنتُ أعود، كنتُ أعلم في داخلي أنني سأرحل يومًا ما، لكنني كنتُ أكذب على نفسي، كنتُ أتمسك بوهم أن الحب قادر على إصلاح ما لا يُصلَح، وأنني قادر على تغيير ما لا يتغير.
لقد أحببتكِ بطريقة لم أفهمها حتى أنا، بطريقة جعلتني مستعدًا للتخلي عن نفسي، عن راحتي، عن كبريائي، فقط لأراكِ تبتسمين. كنتُ رجلاً لم يتعلم أن يُحب باعتدال، كنتُ إذا أحببتُ، أحرقتُ نفسي قربانًا لهذا الحب. كنتِ كل حياتي، وكل مرة كنتِ تسحقينني كنتُ أعود إليكِ، ليس لأنني ضعيف، بل لأنني كنتُ أؤمن أن الحب ليس معركة ننتصر فيها أو نخسر، بل وطنٌ نحتمي به معًا، لكنني كنتُ وحدي من يحتمي، كنتُ وحدي من يخوض الحرب.
كنتُ أعود رغم أنكِ كنتِ المخطئة في معظم الأحيان، لأنني كنتُ أؤمن أن الإنسان لا يُختصر بأخطائه، وأن الحب الحقيقي هو الذي يُسامح، يُداوي، يُمهل… لكنكِ يا مريم لم تفعلي سوى الاستنزاف، كنتِ تأخذين وتأخذين، ولم تفكري يومًا أن تمنحيني شيئًا في المقابل، حتى لو كان الطمأنينة.
أنا لا أقول إنني كنتُ بلا أخطاء، لا أحد في هذا العالم بلا أخطاء، لكنني أقسم لكِ أنني لم أكذب، لم أخدع، لم أخن، لم أتلاعب بمشاعركِ. أخطائي الوحيدة كانت أنني كنتُ أبحث عن الحقيقة، ولكن الحقيقة كانت آخر شيء تريدينه. لأننا نحن البشر يا مريم، حين نكذب ونُسأل عن سبب كذبنا، نكذب مرة أخرى لنبرر الكذبة الأولى، ونستمر في الهروب لأننا نخاف من مواجهة الحقيقة، وأنتِ كنتِ سيدة الهروب.
كنتُ أعود إليكِ في كل مرة، ليس لأنكِ كنتِ تستحقين الفرص، ولكن لأنني كنتُ أريد أن أعطي لنفسي فرصة أن لا أندم لاحقًا، أن لا أستيقظ يومًا وأقول لنفسي: “ربما لو حاولتُ مرة أخرى كانت ستتغير.” كنتُ أبحث عن راحة الضمير، حتى إذا جاء اليوم الذي أقرر فيه الرحيل، أرحل مطمئنًا أنني فعلتُ كل ما يمكن أن يُفعل، حتى آخر رمق، حتى آخر قطرة من حبّي، حتى آخر نفس في صدري.
لكن ماذا فعلتِ أنتِ؟
لم تتغيري. أو ربما تغيرتِ، لكنكِ لم تتغيري من أجلي، بل من أجل نفسكِ. لقد تعلمتِ كيف تكونين أكثر مهارةً في تبرير أفعالكِ، كيف تخبّئين أخطاءكِ تحت كلمات جميلة، كيف تتحدثين عن الحرية والثقة وكأنهما حجارة تُلقينها في وجهي كلما واجهتكِ بالحقيقة. ولكن ماذا عن الحب؟ الحب الذي كنتُ أقدمّه لكِ بلا شروط، بلا حسابات؟ الحب الذي كان يجب أن يكون فوق كل هذه التبريرات، فوق كل هذه الحروب الصغيرة التي كنتِ تخلقينها بيننا؟
لقد كنتُ أتوقع منكِ أن تفهمي، أن تدركي أن الرجل الذي يُحب بصدق لا يقبل أن تكون حبيبته مشاعًا لعيون الآخرين، لا يقبل أن تُصبح صورها متاحة لكل من أراد أن يتأملها، لا يقبل أن يتقاسمها مع أحد، لا بالجسد ولا بالكلام. كنتِ تعرفين ذلك، لكنكِ كنتِ ترفضين الاعتراف به، كنتِ تظنين أنني سأظل موجودًا مهما فعلتِ، أنني سأظل أعود مهما خذلتني، لكن حتى أكثر القلوب صبرًا لها حد، حتى أكثر الأرواح تعلقًا لها نقطة تنكسر فيها ولا تعود كما كانت أبدًا.
ست مرات، ست خيبات، ستة زلازل دمرتني من الداخل.
وكنتُ في كل مرة أبتلع الألم، أُلملم روحي، أعود إليكِ.
ولكن ماذا كنتِ تفعلين في المقابل؟
تكررين الأخطاء نفسها، وكأنكِ تختبرين قدرتي على التحمّل، وكأنكِ تودّين معرفة كم مرة يمكن أن يموت الرجل نفسه من أجل امرأة واحدة.
لكنني لستُ خالدًا يا مريم، لستُ مصنوعًا من حجر، أنا إنسان، وليست هناك روح في هذا العالم قادرة على تحمّل كل هذا النزيف دون أن تفقد نفسها في النهاية.
والآن، ماذا تبقّى مني؟
لا شيء.
رجل كان يومًا ما ممتلئًا بالحب، واليوم ممتلئٌ بالفراغ.
أنا لا أكتب لكِ هذه الكلمات لأستجدي عاطفتكِ، ولا أريدكِ أن تعودي إليّ، حتى لو توسّلتِ، حتى لو بكيتِ، حتى لو أخبرْتِني أنكِ نادمة.
لقد أعطيتُكِ فرصًا أكثر مما يستحقها أي إنسان، ولم يبقَ لي شيء لأقدّمه لكِ بعد الآن.
ولذلك، أقف هنا للمرة الأخيرة، أنظر إليكِ كما ينظر المسافر إلى المدينة التي عاش فيها أجمل أيامه، لكنه يعلم أنه لن يعود إليها أبدًا.
الوداع يا مريم، وهذه المرة… الوداع الأخير.