في حكاية ينسجها الدهر بمغزل من عذاب ورجاء، تتخذ مشاعر رجلٍ طريقاً لم يعهده إلا أولئك الذين وجدوا في الحب خلاصاً، ديناً، وطريقاً إلى أسمى ما في الإنسان.
ليس ككل الحب الذي يمر على هذه الأرض ويُترك كذكرى عابرة، بل هو حبٌّ يُمسي ديانة، يحيا في الظل كحقيقة سرمدية، عميقة وغامضة، لم تَروِها حتى الملائكة، ولم يُكتب لها أن تُفهم إلا من أولئك الذين مرّوا بظلمات الحبّ، وألقوا بأرواحهم في ظلال من يحبونهم.
فيا سادة، إن من ذاق مثل تلك المرارة وصعد في عتمة المعاناة ليصل إلى تلك العتبات، لا يعرف سوى أن يحب بصدق، حبًّا يتجاوز الهوى العابر، ويسمو على أوهام المراهقين. إنه حبٌّ خالد، ينحني له الكون بأسره، حبٌّ كما الأديان التي يقدسها الإنسان بكل يقين. هو صلاةٌ يومية لا تنقطع، كما صلاة الأحد عند قديسي الكنائس، وكأنها خطبة جمعة تحلق بروح العاشق إلى آفاق النقاء. بل إنها صلاة مستمرة لا تعرف نهاية، كل لحظة هي تعبدٌ وحبٌ وذوبان، يحيى في القلب ويصبح جزءاً لا يتجزأ من وجوده.
حينما نعشق هكذا، فإن سعادتنا الحقيقية، تلك التي تُعيدنا إلى ذواتنا، تكمن فقط في أن نمنح السعادة لمن نعشق. ليس ذلك عطاءً مؤقتًا أو تضحيةً زائلة، بل هي إعادة تشكُّل كامل لما نحن عليه، وكأننا نقوم بعملية ولادة جديدة، نهب فيها حياتنا برمتها لمن نحب، نقطع من أجسادنا ونبيع أجزاءً منها فقط لنشتري بريق الابتسامة الذي يضيء وجه من نحب.
من يستطيع أن يحب بهذا النقاء دون أن يصبح جزءاً من ألمه؟ هذا الحب النبيل، حب السعي الأسمى نحو السعادة لمن نحبهم، هو ما يُبقي لنا خيبةً كأنها قَدَر، خيبة عالقة كجرح في أعماق القلب، نحملها كوسامٍ على صدورنا.
إنني أشعر، كما كل من عرف هذا العشق، بأنني سجين خيبتي ومرارة حُبّي. إنه ليس حبًا بسيطًا يا سيدتي، بل كأنه الكون كله قد انطوى بين أضلعي لأجلك، يكاد يحرقني وأنا أراه يحيط بي من كل اتجاه، ومع ذلك أظل سجين هذا الطوق من العاطفة الهائلة.
لو كنتِ ديناً يا سيدتي، لعبدتكِ بكل يقين، لصليت من أجلكِ صلاة العشق، صلاة لا تعرف السكينة، بل تتأجج في داخلي كحمم بركان لا تهدأ.
لكِ أن تتخيلي كيف أنني أعشقكِ حتى أصبح قلبي ساحة حرب مشتعلة، تتصارع فيه العواطف كأنها جيوش لا تعرف رحمة. إن ما يحدث في داخلي، يا سيدتي، هو ثورة لم يشهدها التاريخ، مجزرة من نوع خاص، كأنها الحرب العالمية الأخيرة في أهوالها، بل أكبر من ذلك؛ إنها نيرانٌ تلتهمني وتستعر بداخلي حتى لتبدو نيران النبي إبراهيم خافتة بجانبها، وتبدو فلسطين ولبنان، تلك الجروح الأبدية، كمسحة من الألم بجانب معركة هذا القلب.
إني أحيا حباً هو الثورة بعينها،
كأنه أكبر ما عرفه البشر من تمرد، حب ينفض عنه غبار الحياة ويصرخ في وجه الكون، حبٌ يجعل الثورة الروسية باهتة وتبدو معها انتفاضات الدنيا وكأنها سراب بعيد. أجد في داخلي أكواناً بأسرها تلتف حولك، كأنها وجدت خلاصها في محيطكِ. أرغب، في كل لحظة، أن تدركي أن هذا الحب ليس مجرد كلمات عابرة أو أحلام تتلاشى، بل هو حقيقة عظيمة تتحدى الوجود ذاته، حبٌ لا يفهمه إلا من عاش مثلي تلك المعارك، ذاك الألم، وذاك الانصهار الكامل في محبوبته.
ربما لن تدركي عمق هذا الحب الآن، فهو حبٌ يحمل معاني لا تُدرك بسهولة، حبٌ خالد لا يكشف عن جوهره إلا بعد أزمان وأجيال، ولكنه حب أضع فيه كل ما أنا عليه، كل شريان ينبض في جسدي، وكل لحظة تحملها حياتي.
سأظل، رغم كل شيء، أتمنى لقاءً آخر، في عالمٍ آخر، حيث يكون للقلب حرية جديدة بأن يعشق، حيث نلتقي بعيداً عن أوهام الدنيا وعثراتها، هناك، حين تذوب الحدود بيننا، أحبكِ من جديد، حبًا كالأبد، حبًا بلا ألم وبلا فراق.