مريم… حين خانتني السماء
كلّنا محكومون بلعنة الحب، لكنّني كنتُ أكثرهم لعنة، وأكثرهم إيمانًا بها. كنتُ أعيش على يقينٍ واحد: أنني حين سقطتُ، حين تحوّل العالم إلى رماد، حين تخلى عني الجميع، لم يبقَ لي سوى مريم.
تخيّلي، يا مريم، رجلاً فقدَ كلّ شيء، لا وطنَ له، لا أهل، لا بيت، لا صوتٌ يهمسُ له في ظلام الوحدة: “أنا هنا”. تخيّلي رجلاً لفظته عائلته كما يُلفظُ العار، صلّوا من أجل موته كما يصلّي التائب لينجو من الخطيئة، تخيّلي رجلاً كانت أمه صامتةً كأنها لا تراه، وأخوه سيفًا مسلولًا فوق رقبته، وأخته يدًا تدفعه نحو الهاوية، وحين سقط، وحين نظر حوله باحثًا عن سببٍ واحدٍ للحياة، لم يجد سواكِ.
مريم… كنتِ أنتِ هذا السبب.
لكن ماذا فعلتِ؟
جئتِ بعد كل هذا الخراب، بعد أن أصبحتُ رجلًا بلا جذور، بلا وجهٍ، بلا ماضٍ، وقلتِ لي: “لنكن أصدقاء فقط.”
أتدرين ما فعلتهِ بي؟
لقد صفعتني صفعةً لم يسبق لها مثيل، صفعةً أقوى من طعنات العائلة، أشدّ إيلامًا من كل الخيانات، أعمق من كل الجراح. كنتُ أظنُّ نفسي محصّنًا ضد الألم، كنتُ أظنُّ أنني لن أحزن مجددًا، أنني لن أنكسر، ولكنكِ كنتِ استثنائي، كنتِ الضوء الوحيد الذي قاوم كل العتمة، كنتِ اليد التي تمسّكتُ بها حين خذلتني الأرض، كنتِ نجم بولاريس الذي يهتدي به البحّارة إن ضلّوا الطريق، كنتِ دليلي إلى الحياة، ولكنّكِ اليوم صرتِ النجم الذي أطفأ البحر ضوءه فجأةً، وترك سفينتي ترتطم بالموت.
حتى أنتِ يا مريم؟
أنتِ التي كنتُ أختبئُ خلفكِ حين كانت الدنيا تهاجمني، أنتِ التي كنتُ أقول عنها: “هي لن تخذلني، هي تعرفني، هي تفهمني…” حتى أنتِ يا مريم، كنتِ مثلهم؟
أتدرين ما يحدث داخلي الآن؟
أنا أعيشُ حربًا لا هوادة فيها، عقلي يصرخ بي: “انهض! الجميع قد تخلّى عنك، حتى مريم، حتى تلك التي ظننتها وطنًا لم تكن سوى محطة عابرة.” ولكن قلبي لا يزال يقاتل، يمسك بسيفه المكسور، والغبارُ يحيط به كإعصارٍ هائج، ويصرخُ في وجهي: “لا وألف لا! مريم لم تتغير، مريم لا تزال تحبك!”
فماذا أفعل الآن يا مريم؟
أيّهما أقتل؟ قلبي أم عقلي؟
إن قتلتُ قلبي، سأعيشُ كما يريدني العالم، رجلًا بلا روح، بلا حبّ، بلا مريم. وإن قتلتُ عقلي، سأبقى في وهمي، سأظلُّ أؤمن أنكِ ستعودين يومًا، سأظلّ أسيرًا لكذبةٍ صنعتها بنفسي كي لا أموت.
أجيبيني يا مريم، من أقتل؟
إنّ الآهات تملؤني كما يملأ الماء جوف المحيط، كما تملأ النجومُ السماء، كما تملأ الأناشيدُ أفواه الجنود الذاهبين إلى معركةٍ يعرفون أنهم لن يعودوا منها.
لكنني هذه المرة، لا أريد النجاة.